فصل: النوع العاشر في الحروف العاطفة والجارة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **


  النوع التاسع في التقديم والتأخير

وهذا باب طويل العرض يشتمل على أسرار دقيقة منها ما استخرجته أنا ومنها ما وجدته

وهو ضربان‏:‏ الأول يختص بدلالة الألفاظ على المعاني ولو أخر المقدم أو قدم المؤخر لتغير

المعنى والثاني يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك ولو أخر لما تغير

المعنى‏.‏

فأما الضرب الأول فإنه ينقسم إلى قسمين‏:‏ أحدهما يكون التقديم فيه هو الأبلغ والآخر يكون

التأخير فيه هو الأبلغ‏.‏

فأما القسم الذي يكون التقديم فيه هو الأبلغ فكتقديم المفعول على الفعل وتقديم الخبر على

المبتدأ وتقديم الظرف أو الحال أو الاستثناء على العامل‏.‏

فمن ذلك تقديم المفعول على الفعل كقولك‏:‏ زيدا ضربت وضربت زيدا فإن في قولك زيدا

ضربت تخصيصا به بالضرب دون غيره وذلك خلاف قولك ‏"‏ ضرب زيدا ‏"‏ لأنك إذا قدمت

الفعل كنت بالخيار في إيقاعه على أي مفعول شئت بأن تقول خالدا أو بكرا أو غيرهما وإذا

أخرته لزم الاختصاص للمفعول‏.‏

وكذلك تقديم خبر المبتدأ عليه كقولك زيد قائم وقائم زيد فقولك ‏"‏ قائم زيد ‏"‏ قد أثبت له

القيام دون غيره وقولك ‏"‏ زيد قائم ‏"‏ أنت بالخيار في إثبات القيام له ونفيه عنه بأن تقول‏:‏ ضارب

أو جالس أو غير ذلك ‏,‏

وهكذا يجري الحكم في تقديم الظرف كقولك إن إلي مصير هذا الأمر وقولك‏:‏ إن مصير هذا

الأمر إلي فإن تقديم الظرف دل على أن مصير الأمر ليس إلا إليك بخلاف قولك‏:‏ إن مصير هذا الأمر إلي إذ يحتمل إيقاع الكلام بعد الظرف على غيرك فيقال‏:‏ إلى زيد أو عمرو أو غيرهما‏.‏

وكذلك يجري الأمر في الحال والاستثناء‏.‏

وقال علماء البيان - ومنهم الزمخشري رحمه الله -‏:‏ إن تقديم هذه الصورة المذكورة إنما هو

للاختصاص وليس كذلك والذي عندي فيه أن يستعمل على وجهين‏:‏ أحدهما الاختصاص

والآخر مراعاة نظم الكلام وذاك أن يكون نظمه لا يحسن إلا بالتقديم وإذا أخر المقدم ذهب

ذلك الحسن وهذا الوجه أبلغ وأوكد من الاختصاص‏.‏

فأما الأول الذي هو الاختصاص فنحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد

أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله

فاعبد وكن من الشاكرين ‏"‏ فإنه إنما قيل ‏"‏ بل الله فاعبد ‏"‏ ولم يقل ‏"‏ بل اعبد الله ‏"‏ لأنه إذا تقدم

وجب اختصاص العبادة به دون غيره ولو قال ‏"‏ بل اعبد ‏"‏ لجاز إيقاع الفعل على أي مفعول شاء وأما الوجه الثاني الذي يختص بنظم الكلام فنحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين ‏"‏ وقد ذكر الزمخشري في تفسيره أن التقديم في هذا الموضع قصد به الاختصاص وليس كذلك فإنه لم يقدم

المفعول فيه على الفعل للاختصاص وإنما قدم لمكان نظم الكلام لأنه لو قال نعبدك ونستعينك لم

يكن له من الحسن ما لقوله ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين ‏"‏ ألا ترى أنه تقدم قوله تعالى ‏"‏ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ‏"‏ فجاء بعد ذلك قوله ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين ‏"‏ وذاك لمراعاة حسن النظم السجعي الذي هو على حرف النون ولو قال نعبدك ونستعينك لذهبت

تلك الطلاوة وزال ذلك الحسن وهذا غير خاف على أحد من الناس فضلا على أرباب علم

البيان‏.‏

وعلى نحو منه ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأوجس في نفسه خيفة موسى‏.‏

قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ‏"‏

وتقدير الكلام فأوجس موسى في نفسه خيفة وإنما قدم المفعول على الفاعل وفصل بين الفعل

والفاعل والمفعول وبحرف الجر قصداً لتحسين النظم وعلى هذا فليس كل تقديم لما مكانه

التأخير من باب الاختصاص فبطل إذا ما ذهب إليه الزمخشري وغيره‏.‏

ومما ورد من هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ‏"‏ فإن تقديم الجحيم على

التصلية وإن كان فيه تقديم المفعول على الفعل إلا أنه لم يكن ههنا للاختصاص وإنما هو للفضيلة السجعية ولا مراء في أن هذا النظم على هذه الصورة أحسن من أن لو قيل خذوه فغلوه ثم صلوه الجحيم‏.‏

فإن قيل إنما قدمت الجحيم للاختصاص لأنها نار عظيمة ولو اخرت لجاز وقوع الفعل على

غيرها كما يقال‏:‏ ضربت زيدا وزيدا ضربت وقد تقدم الكلام على ذلك‏.‏

فالجواب عن ذلك أن الدرك الأسفل أعظم من الجحيم فكان ينبغي أن يخص بالذكر دون

الجحيم على ما ذهب إليه لأنه أعظم وهذا لا يذهب إليه إلا من هو بنجوة عن رموز

الفصاحة والبلاغة ولفظة الجحيم ههنا في هذه الآية أولى بالاستعمال من غيرها لأنها جاءت

ملائمة لنظم الكلام ألا ترى أن من أسماء النار السعير ولظى وجهنم ولو وضع بعض هذه

الأسماء مكان الجحيم إنما هو النار‏:‏ أي صلوه بالنار وهكذا يقال في ‏"‏ ثم في سلسلة ذرعها

سبعون ذراعا فاسلكوه ‏"‏ فإنه لم يقدم السلسلة على السلك للاختصاص وإنما قدم لمكان نظم

الكلام ولا شك أن هذا النظم أحسن من أن لو قيل ثم اسلكوه في سلسلة ذرعها سبعون

ذراعا والكلام على هذا كالكلام على الذي قبله وله في القرآن نظائر كثيرة ألا ترى إلى قوله

تعالى ‏"‏ وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون‏.‏

والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم‏.‏ والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ‏"‏ فقوله‏:‏ ‏"‏ والقمر قدرناه منازل ‏"‏

ليس تقديم المفعول فيه على الفعل من باب الاختصاص و إنما هو من باب مراعاة نظم الكلام

فإنه قال‏:‏ ‏"‏ الليل نسلخ منه النهار ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ والشمس تجري ‏"‏ فاقتضى حسن النظم أن يقول ‏"‏ والقمر قدرناه ‏"‏ ليكون الجميع على نسق واحد في النظم ولو قال وقدرنا القمر منازل لما كان بتلك الصورة في الحسن وعليه ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ‏"‏ وإنما قدم المفعول لمكان حسن النظم السجعي‏.‏

وأما تقديم خبر المبتدأ عليه فقد تقدمت صورته كقولك‏:‏ زيد قائم وقائم زيد فمما ورد

منه في القرآن قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ‏"‏ فإنه إنما قال ذلك ولم يقل وظنوا أن حصونهم تمنعمهم أو مانعتهم لأن في تقديم الخبر الذي هو مانعتهم على المبتدأ الذي هو حصونهم دليلا على فرط اعتقادهم في حصانتها وزيادة وثوقهم بمنعها إياهم وفي تصويب

ضميرهم اسما لأن وإسناد الجملة إليه دليل على تقريرهم في أنفسهم أنهم في عزة وامتناع لا يبالي معها بقصد قاصد ولا تعرض متعرض وليس شيء من ذلك في قولك‏:‏ وظنوا أن حصونهم مانعتهم من الله‏.‏

ومن تقديم خبر المبتدأ قوله تعالى‏:‏ قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ‏"‏ فإنه إنما قدم خبر

المبتدأ عليه في قوله ‏"‏ أراغب أنت ‏"‏ ولم يقل أأنت راغب لأنه كان أهم عندهم وهو به شديد

العناية وفي ذلك ضرب من التعجب والإنكار لرغبة إبراهيم عن آلهته وأن آلهته لا ينبغي أن

يرغب عنها و هذا بخلاف ما لو قال أأنت راغب عن آلهتي‏.‏

ومن غامض هذا الموضع قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين

كفروا ‏"‏ فإنه إنما قال ذلك ولم يقل فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لأمرين‏:‏ أحدهما تخصيص

الأبصار بالشخوص دون غيرها أما الأول فلو قال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لجاز أن

يضع موضع شاخصة غيره فيقول‏:‏ حائرة أو مطموسة أو غير ذلك فلما قدم الضمير اختص

الشخوص بالأبصار دون غيرها وأما الثاني فإنه لما أراد أن الشخوص بهم دون غيرهم دل عليه

بتقديم الضمير أولاً ثم بصاحبه ثانيا كأنه قال‏:‏ فإذا هم شاخصون دون غيرهم ولولا أنه أراد

هذين الأمرين المشار إليهما لقال فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة لأنه أخصر بحذف الضمير

من الكلام‏.‏ ومن هذا النوع قول النبي ‏)‏وقد سئل عن ماء البحر فقال‏:‏ ‏"‏ هو الطهور ماؤه الحل ميتته ‏"‏

وتقدير الكلام هو الذي ماؤه طهور وميتته حل لأن الألف واللام ههنا بمعنى الذي‏.‏

وأما تقديم الظرف فإنه إذا كان الكلام مقصودا به الإثبات فإن تقديمه أولى من تأخيره وفائدته

إسناد الكلام الواقع بعده إلى صاحب الظرف دون غيره فإذا أريد بالكلام النفي فيحسن فيه

تقديم الظرف وتأخيره وكلا هذين الأمرين له موضع يختص به‏.‏

فأما تقديمه في النفي فإنه يقصد به تفضيل المنفي عنه على غيره ‏,‏

فأما الأول - وهو تقديم الظرف في الإثبات - فكقولك في الصورة المقدمة‏:‏ إن إلي مصير هذا

الأمر ولو أخرت الظرف فقلت‏:‏ إن مصير هذا الأمر إلي لم يعط من المعنى ما أعطاه

الأول وذلك أن الأول دل على أن مصير الأمر ليس إلا إليك وذلك بخلاف الثاني إذ يحتمل أن

توقع الكلام بعد الظرف على غيرك فيقال‏:‏ إلى زيد أو عمرو أو غيرهما وعلى نحو منه جاء

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ‏"‏ وكذلك جاء قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يسبح لله ما في

السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد ‏"‏ فإنه إنما قدم الظرفين ههنا في قوله ‏"‏ له الملك وله الحمد ‏"‏ ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله لا بغيره‏.‏

وقد استعمل تقديم الظرف في القرآن كثيراً كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ‏"‏ أي تنظر إلى ربها دون غيره فتقديم الظرف ههنا ليس للاختصاص وإنما هو كالذي أشرت إليه في تقديم المفعول وأنه لم يقدم للاختصاص وإنما قدم من أجل نظم الكلام لأن قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ‏"‏ أحسن من أن لو قيل‏:‏ وجوه يومئذ ناضرة ناظرة إلى ربها والفرق بين النظمين ظاهر وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق ‏"‏ فإن هذا روعي فيه حسن النظم لا الاختصاص في تقديم الظرف وفي القرآن مواضع كثيرة من هذا القبيل يقيسها غير العارف بأسرار الفصاحة على مواضع أخرى وردت للاختصاص وليست كذلك

فمنها قوله تعالى‏:‏‏:‏ ‏"‏ إلى ربك يومئذ المستقر ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ ألا إلى الله تصير الأمور ‏"‏ و ‏"‏ له الحكم وإليه ترجعون ‏"‏ و ‏"‏ عليه توكلت وإليه أنيب ‏"‏ فإن هذه جميعها لم تقدم الظروف فيها للاختصاص

وإنما قدمت لمراعاة الحسن في نظم الكلام فاعرف ذلك‏.‏

وأما الثاني‏:‏ وهو تأخير الظرف وتقديمه في النفي - فنحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ‏"‏ فإنه إنما أخر الظرف في الأول لأن القصد في إيلاء حرف النفي الريب نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب كما كان المشركون يدعونه ولو أولاه الظرف لقصد أن كتابا آخر فيه الريب لا فيه كما قصد في قوله‏:‏ ‏"‏ لا فيها غول ‏"‏ فتأخير الظرف يقتضي النفي أصلا من غير تفصيل وتقديمه يقتضي تفضيل المنفي عنه وهو خمر الجنة على غيرها من خمور الدنيا أي ليس فيها ما في غيرها من الغول وهذا

مثل قولنا‏:‏ لا عيب في الدار وقولنا لا فيها عيب فالأول نفي للعيب عن الدار فقط والثاني

تفضيل لها على غيرها‏:‏ أي ليس فيها ما في غيرها من العيب فاعرف ذلك فإنه من دقائق هذا

الباب‏.‏

وأما تقديم الحال فكقولك‏:‏ جاء راكبا زيد وهذا بخلاف قولك‏:‏ جاء زيد راكبا إذ يحتمل أن

يكون ضاحكا أو ماشيا أو غير ذلك‏.‏

وأما الاستثناء فجار هذا المجرى نحو قولك‏:‏ ما قام إلا زيدا أحد أو ما قام أحد إلا زيدا

والكلام على ذلك كالكلام على ما سبق‏.‏

المعاظلة المعنوية وأما القسم الثاني فهو أن يقدم ما الأولى به التأخير لأن المعنى يختل بذلك ويضطرب وهذا هو المعاظلة المعنوية وقد قدمنا القول في المقالة الأولى المختصة بالصناعة اللفظية بأن المعاظلة تنقسم

قسمين‏:‏ أحدهما لفظي والآخر معنوي أما الفظي فذكرناه في بابه وأما المعنوي فهذا بابه

وموضعه وهو كتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على الموصوف وتقديم الصلة على الموصول

وغير ذلك مما يرد بيانه‏.‏

فمن هذا القسم قول بعضهم‏:‏

فقد والشك بين لي عناء بوشك فراقهم صرد يصيح

فإنه قدم قوله ‏"‏ بوشك فراقهم ‏"‏ وهو معمول ‏"‏ يصيح ‏"‏ و ‏"‏ يصيح ‏"‏ صفة لصرد على صرد وذلك قبيح ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال‏:‏ هذا من موضع كذا رجل ورد اليوم وإنما يجوز وقوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها فكذلك لا يجوز تقديم ما

ومن هذا النحول قول آخر‏:‏

فأصبحت بعد خط بهجتها كأن قفراً رسومها قلماً

فإنه قدم خبر كأن عليها وهو قوله ‏"‏ خط ‏"‏ وهذا وأمثاله مما لا يجوز قياس عليه والأصل في

هذا البيت فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها إلا أنه على تلك الحالة الأولى في

الشعر مختل مضطرب‏.‏

والمعاظلة في هذا الباب تتفاوت درجتها في القبح وهذا البيت المشار إليه من أقبحها لأن

معانيه قد تداخلت وركب بعضها بعضا‏.‏

ومما جرى هذا المجرى قول الفرزدق‏:‏

إلى ملك ما أمه من محارب أبوه ولا كانت كليب تصاهره

وهو يريد إلى ملك أبوه ما أمه من محارب وهذا أقبح من الأول وأكثر اختلالا‏.‏

وكذلك جاء قوله أيضا‏:‏

وليست خراسان التي كان خالد بها إذ كان سيفا أميرها

وحدي هذا البيت ظريف وذاك أنه فيما ذكر يمدح خالد بن عبد الله القسري ويهجو أسدا

وكان أسد وليها بعد خالد وكأنه قال‏:‏ وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفا إذ كان

أسد أميرها وعلى هذا التقدير ففي ‏"‏ كان ‏"‏ الثانية ضمير الشأن والحديث والجملة بعدها خبر

عنها وقد قدم بعض ما إذ مضافة إليه وهو ‏"‏ أسد ‏"‏ عليها وفي تقديم المضاف إليه أو شيء

منه على المضاف من القبح ما لا خفاء به وأيضا فإن أسدا أحد جزأي الجملة المفسرة للضمير

والضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير ولما سماه

الكوفيون الضمير المجهول‏.‏

وعلى هذا النحو ورد قول الفرزدق أيضا‏:‏

وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه

ومعنى هذا البيت وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه وعلى هذا المثال المصوغ

في الشعر قد جاء مشوها كما تراه‏.‏

وقد استعمل الفرزدق من التعاظل كثيرا كأنه كان يقصد ذلك ويتعمده لأن مثله لا يجيء إلا

متكلفا مقصودا وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم

يعرض له شيء من هذا التعقيد ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا الضرب المشار

إليه إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى فإذا ذهب هذا الوصف

المقصود من الكلام ذهب المراد به ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية

واعلم أن هذا الضرب من الكلام هو ضد الفصاحة لأن الفصاحة هي الظهور والبيان وهذا

عار عن هذا الوصف‏.‏

أما الضرب الثاني الذي يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك فإنه مما

لا يحصره حد ولا ينتهي إليه شرح وقد أشرنا إلى نبذة منه في هذا الكتاب ليستدل بها على

أشباهها ونظائرها‏.‏

فمن ذلك تقديم السبب على المسبب كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين ‏"‏ فإنه إنما قدم

العبادة على الاستعانة لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلب وأسرع

لوقوع الإجابة ولو قال إياك نستعين وإياك نعبد لكان جائزا إلا أنه لا يسد ذلك المسد ولا يقع ذلك

الموقع وهذا لا يخفى على المنصف من أرباب هذه الصناعة وعلى نحو منه جاء قوله تعالى

‏:‏ ‏"‏ وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ‏"‏ فقدم

حياة الأرض وإسقاء الأنعام على إسقاء الناس وإن كانوا أشرف محلا لأن حياة الأرض هي

سبب لحياة الأنعام والناس فلما كانت بهذه المثابة جعلت مقدمة في الذكر ولما كانت الأنعام من

أسباب التعيش والحياة للناس قدمها في الذكر على الناس لأن حياة الناس بحياة أرضهم

وأنعامهم فقدم سقي ما هو سبب نمائهم ومعاشهم على سقيهم‏.‏

ومن هذا الضرب تقديم الأكثر على الأقل كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من

عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ‏"‏ وإنما قدم الظالم لنفسه للإيذان

بكثرته وأن معظم الخلق عليه ثم أتى بعده بالمقتصدين لأنهم قليل بالإضافة إليه ثم أتى

بالسابقين وهو أقل من القليل أعني من المقتصدين فقدم الأكثر وبعده الأوسط ثم ذكر الأقل

آخرا ولو عكست القضية المعنى أيضاً واقعا في موقعه لأنه يكون قد روعي فيه تقديم الأفضل

بالأفضل‏.‏

ولنوضح لك في هذا وأمثاله طريقا تقتفيه فنقول اعلم أنه إذا كان الشيئان كل واحد منهما

مختصا بصفة فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت في الذكر كهذه الآية فإن السابق بالخيرات مختص بصفة الفضل والظالم لنفسه مختص بصفة الكثرة فقس على هذا ما يأتيك من أشباهه وأمثاله‏.‏

ومن هذا الجنس قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من

يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع ‏"‏ فإنه إنما قدم الماشي على بطنه لأنه أدل على

القدرة من الماشي على رجلين إذ هو ماش بغير الآلة المخلوقة للمشي ثم ذكر الماشي على

رجلين وقدمه على الماشي على أربع لأنه أدل على القدرة أيضاً حيث كثرة آلات المشي في

الأربع وهذا من باب تقديم الأعجب فالأعجب‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد ورد في القرآن الكريم في مواضع منه ما يخالف هذا الذي ذكرته كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ففي النار ‏"‏ فقدم أهل النار في الذكر على أهل الجنة وهذا مخالف للأصل الذي أصلته في هذا الموضع‏.‏

فالجواب عن ذلك أن هذا الذي أشرت إليه في سورة هود وما أشبهه له أسرار تحتاج إلى فضل

تأمل وإمعان نظر حتى تفهم‏:‏ أما هذا الموضع فإنه لما كان الكلام مسوقا في ذكر التخويف

والتحذير وجاء على عقب قصص الأولين وما فعل الله بهم من التعذيب والتدمير كان الأليق

أن يوصل الكلام بما يناسبه في المعنى وهو ذكر أهل النار فمن أجل ذلك قدموا في الذكر على

أهل الجنة وإذا رأيت في القرآن شيئا من هذا القبيل وما يجري مجراه فتأمله وأمعن نظرك فيه

حتى يتبين لك مكان الصواب منه‏.‏

واعلم أنه إذا كان مطلع الكلام في معنى من المعاني ثم يجيء بعده ذكر شيئين أحدهما أفضل

من الآخر وكان المعنى المفضول مناسبا لمطلع الكلام فأنت بالخيار في تقديم أيهما شئت لأنك إن قدمت الأفضل فهو من التقديم وإن قدمت المفضول فلأن مطلع الكلام يناسبه وذكر الشيء مع ما يناسبه أيضاً وارد في موضعه‏.‏

فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإنا إذا أذقنا الإنسان رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم

فإن الإنسان كفور‏.‏

لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن

يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ‏"‏ فإنه إنما قدم

الإناث على الذكور من تقدمهم عليهن لأنه ذكر البلاء في آخر الآية الأولى وكفران الإنسان بنسيانه للرحمة السابقة عنده ثم عقب ذلك بذكر ملكه ومشيئته وذكر قسمة الأولاد فقدم الإناث لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء لا ما يشاؤه الإنسان فكان ذكر الإناث اللاتي هن من جملة ما لا يشاؤه الإنسان ولا يختاره أهم والأهم واجب التقديم وليلي الجنس الذي كانت العرب تعده

بلاء ذكر البلاء ولما أخر ذكر الذكور وهم أحقاء بالتقديم تدارك ذلك بتعريفه إياهم لأن

التعريف تنويه بالذكر كأنه قال يهب لمن يشاء الفرسان الأعلام المذكورين الذين لا يخفون

عليكم ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين حقه من التقديم والتأخير وعرف أن تقديم الإناث لم يكن

لتقدمهن ولكن لمقتض آخر فقال ‏"‏ ذكرانا وإناثا ‏"‏ وهذه دقائق لطيفة قل من ينتبه لها أو يعثر على رموزها‏.‏

ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ‏"‏

فإنه إنما قدم الأرض في الذكر على السماء ومن حقها التأخير لأنه لما ذكر شهادته على شؤون

أهل الأرض وأحوالهم ووصل ذلك بقوله ‏"‏ وما يعزب ‏"‏ لاءم بينهما ليلي المعنى المعنى‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد جاء تقديم الأرض على السماء في الذكر في مواضع كثيرة من القرآن‏.‏

قلنا إذا جاءت مقدمة في الذكر فلا بد لتقديمها من سبب اقتضاه وإن خفي ذلك السبب وقد

يستنبطه بعض العلماء دون بعض‏.‏

  النوع العاشر في الحروف العاطفة والجارة

وهذا موضع لطيف المؤخذ دقيق المغزى وما رأيت أحدا من علماء هذه الصناعة تعرض

إليه ولا ذكره وما أقول إنهم لم يعرفوه فإن هذا النوع من الكلام أشهر من أن يخفى لأنه مذكور في كتب العربية جميعها ولست أعني يإيراده ههنا ما يذكره النحويون من أن الحروف العاطفة تتبع ‏"‏ المعطوف ‏"‏ المعطوف عليه في الإعراب ولا أن الحروف الجارة تجر ما تدخل عليه بل أمرا وراء ذلك وإن كان المرجع فيه إلى الأصل النحوي فأقول‏:‏

إن أكثر الناس يضعون هذه الحروف في غير مواضعها فيجعلون ما ينبغي أن يجر بعلى بفي في ٍأما حروف العطف فنحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والذي هو يطعمني ويسقين ‏,‏ وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين ‏"‏ فالأول عطفه بالواو التي هي للجمع وتقديم الإطعام على الإسقاء والإسقاء على الإطعام جائز لولا مراعاة حسن النظم ثم عطف الثاني بالفاء لأن الشفاء يعقب

المرض بلا زمان خال من أحدهما ثم عطف الثالث بثم لأن الإحياء يكون بعد الموت بزمان

ولهذا جيء في عطفه بثم التي هي للتراخي ولو قال قائل في موضع هذه الآية الذي يطعمني

ويسقين ويمرضني ويشفين ويميتني ويحيين لكان الكلام معنى تام إلا أنه لا يكون كمعنى الآية إذ كل شيء منها قد عطف بما يناسبه ويقع موقع السداد منه‏.‏

ومما جاء من هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قُتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه

فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ‏"‏ ألا ترى أنه لما قال ‏"‏ من نطفة خلقه ‏"‏

كيف قال‏:‏ ‏"‏ فقدره ‏"‏ ولم يقل ثم قدره لأن التقدير لما كان تابعا للخلقة وملازما لها عطفه عليها

بالفاء وذلك بخلاف قوله ‏"‏ ثم السبيل يسره ‏"‏ لأن بين خلقته في بطن أمه وبين إخراجه منه وتسهيل سبيله مهلة وزمانا فلذلك عطفه بثم وعلى هذا جاء قوله تعالى ‏"‏ ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره ‏"‏ لأن بين إخراجه من بطن أمه وبين موته تراخيا وفسحة وكذلك بين موته ونشوره أيضا ولذلك عطفهما بثم ولما لم يكن بين موت الإنسان وإقباره تراخ ولا مهلة عطفه بالفاء وهذا ومما جاء من ذلك أيضاً قوله تعالى في قصة مريم وعيسى عليهما السلام‏:‏ ‏"‏ فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت‏:‏ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ‏"‏ وفي هذه الآية دليل على أن حملها به ووضعها إياه كانا متقاربين لأنه عطف الحمل والانتباذ إلى المكان الذي مضت إليه والمخاض الذي هو الطلق بالفاء وهي للفور ولو كانت كغيرها من النساء لعطف بثم التي هي للتراخي والمهلة ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى ‏"‏ قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ‏"‏ فلما كان بين تقديره في البطن وإخراجه منه مدة متراخية عطف ذلك بثم وهذا خلاف قصة مريم عليها السلام فإنها عطفت بالفاء وقد اختلف الناس في مدة حملها فقيل‏:‏ إنه كان كحمل غيرها من النساء

وقيل‏:‏ لا بل كان مدة ثلاثة أيام وقيل‏:‏ أقل وقيل‏:‏ أكثر وهذه الآية مزيلة للخلاف لأنها دلت

صريحا على أن الحمل والوضع كانا متقاربين على الفور من غير مهلة وربما كان ذلك في يوم واحد أو أقل أخذا بما دلت عليه الآية‏.‏

ومما ورد من هذا الأسلوب قوله تعالى ‏"‏ لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام

لحما ثم أنشأناه خلقا آخر ‏"‏ ففي الآية المتقدم ذكرها قال ‏"‏ من نطفة خلقه فقدره ‏"‏ فعطف التقدير على الخلق بالفاء لأنه تابع له ولم يذكر تفاصيل حال المخلوق وفي الآية ذكر تفاصيل حاله في تنقله فبدأ بالخلق الأول وهو خلق آدم من طين ولما عطف عليه الخلق الثاني الذي هو خلق النسل عطفه بثم لما بينهما التراخي وحيث صار إلى التقدير الذي يتبع بعضه بعضا من غير تراخ عطفه بالفاء ولما انتهى إلى جعله ذكرا أو أنثى وهو آخر الخلق عطفه بثم‏.‏

فإن قيل‏:‏ إنه قد عطف المضغة على العلقة في هذه الآية بالفاء وفي أخرى بثم وهي قوله تعالى

‏"‏ يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ‏"‏

فالجواب عن ذلك‏.‏

واعلم أن في حروف العطف موضعا تلتبس فيه الفاء بالواو وهو موضع يحتاج فيه إلى فضل

تام وذلك أن فعل المطاوعة لا يعطف عليه إلا بالفاء دون الواو وقد يجيء من الأفعال ما يلتبس

بفعل المطاوعة ويعطي ظاهره أنه كذلك إلا أن معناه يكون مخالفا لمعنى فعل المطاوعة فيعطف حينئذ بالواو ويعطي ظاهره أنه كذلك إلا أن معناه يكون مخالفا لمعنى فعل المطاوعة فيعطف حينئذ بالواو لا بالفاء كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ‏"‏ فقوله ‏"‏ أغفلنا

قلبه ‏"‏ ههنا بمعنى صادفناه غافلا وليس منقولا عن غفل حتى يكون معناه صددناه لأنه لو

كان كذلك لكان معطوفا عليه بالفاء وقيل‏:‏ فاتبع هواه و ذلك أنه يكون مطاوعا وفعل المطاوعة

لا يعطف إلا بالفاء كقولك‏:‏ أعطيته فأخذ أو دعوته فأجاب ولا تقول أعطيته وأخذ ولا دعوته

وأجاب كما لا يقال‏:‏ كسرته وانكسر وكذلك لو كان معنى أغفلنا في الآية صددنا ومنعنا لكان

معطوفا عليه بالفاء وكان يقال‏:‏ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه فلما لم يكن كذلك

وكان العطف عليه بالواو فطريقة أنه لما قال‏:‏ ‏"‏ أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ‏"‏ أن يكون معناه

وجدناه عاقلا فقد غفل لا محالة فكأنه قال‏:‏ و لا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه أي لا

تطع من فعل كذا وكذا يعدد أفعاله التي توجب ترك طاعته فاعرف ذلك‏.‏

وأما حروف الجر فإن الصواب يشذ عن وضعها في مواضعها وقد علم أن ‏"‏ في ‏"‏ للوعاء

و ‏"‏ على ‏"‏ للاستعلاء كقولهم زيد في الدار وعمرو على الفرس لكن إذا أريد استعمال ذلك في

غير هذين الموضعين مما يشكل استعماله عدل فيه عن الأولى‏.‏

فمما ورد منه قوله تعالى ‏"‏ قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ‏"‏ ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود لمخالفة حرفي الجر ههنا فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاء وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه لا يدري أين يتوجه وهذا معنى دقيق قلما يراعى مثله في الكلام وكثيرا ما سمعت إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على كل أمر من الأمور فيقول له‏:‏ أنت على ضلالك القديم كما أعهدك فيأتي بعلى في موضع في وإن كان هذا جائزا إلا أن استعمال في ههنا أولى لما أشرنا إليه ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة يوسف‏:‏ ‏"‏ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ‏"‏‏.‏

ومن هذا النوع قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل ‏"‏ فإنه إنما عدل عن اللام إلى ‏"‏ في ‏"‏ في الثلاثة الأخيرة

للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره باللام لأن ‏"‏ في ‏"‏ للوعاء فنبه

على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاء وأن يجعلوا مظنة لها

وذلك لما في فك الرقاب وفي الغرم من التخلص وتكرير ‏"‏ في ‏"‏ في قوله ‏"‏ وفي سبيل الله ‏"‏ دليل على الرقاب وعلى الغارمين وسياق الكلام أن يقال‏:‏ وفي الرقاب والغارمين وسبيل الله وابن السبيل فلما جيء بفي ثانية وفصل بها بين الغارمين وبين سبيل الله علم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيه وهذه لطائف ودقائق لا توجد إلا في هذا الكلام الشريف فاعرفها وقس عليها‏.‏

  النوع الحادي عشر والفرق بينهما

ولم أذكر هذا الموضع لأن يجري الأمر فيه على ما جرى مجراه فقط بل لأن يقاس عليه مواضع أخرى مما تماثله وتشابهه ولو كان شبها بعيدا‏.‏

وإنما يعدل عن أحد الخطابين إلى الآخر لضرب التأكيد والمبالغة‏.‏

فمن ذلك قولنا‏:‏ قام زيد وإن زيدا قائم فقولنا ‏"‏ قام زيد ‏"‏ معناه الإخبار عن زيد بالقيام

وقولنا ‏"‏ إن زيد قائم ‏"‏ معناه الإخبار عن زيد بالقيام أيضا إلا أن في الثاني زيادة ليست في

الأول وهي توكيده بإن المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها وإذا زيد في خبرها اللام

فقيل‏:‏ إن زيدا لقائم كان ذلك أكثر توكيدا في الإخبار بقيامه وهذا مثال ينبني عليه أمثلة كثيرة

من غير هذا النوع‏.‏

فمما جاء من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا

معكم ‏"‏ فإنهم إنما خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعلية وشياطينهم بالجملة الاسمية المحققة بإن المشددة لأنهم في مخاطبة إخوانهم بما أخبروا به عن أنفسهم من الثبات على اعتقاد الكفر والبعد من أن يزلوا عنه على صدق ورغبة ووفور نشاط فكان ذلك متقبلا منهم ورائجا عند إخوانهم وأما الذي خاطبوا به المؤمنين فإنما قالوا تكلفا وإظهارا للإيمان خوفا ومداجاة وكانوا يعلمون أنهم لو قالوه بأوكد لفظ وأسده لما راج لهم عند المؤمنين إلا رواجا ظاهرا لا باطنا ولأنهم ليس لهم في عقائدهم باعث قوي على النطق في خطاب المؤمنين بمثل ما خاطبوا به إخوانهم من العبارة المؤكدة فلذلك قالوا في خطاب المؤمنين ‏"‏ آمنا ‏"‏ وفي خطاب إخوانهم ‏"‏ إنا معكم ‏"‏ وهذه نكت تخفى على من ليس له قدم راسخة في علم الفصاحة والبلاغة‏.‏

ومما يجري هذا المجرى ورود لام التوكيد في الكلام و لا يجيء ذلك إلا لضرب من المبالغة

وفائدته أنه إذا عبر عن أمر يعز وجوده أو فعل يكثر وقوعه جيء باللام تحقيقا لذلك ‏,‏

فمما جاء منه قوله تعالى في أول سورة المنافقين ‏"‏‏:‏ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ‏"‏ فانظر إلى هذه اللامات الثلاثة الواردة خبر إن والأولى وردت في قول المنافقين وإنما وردت مؤكدة لأنهم أظهروا من أنفسهم التصديق برسالة النبي ‏)‏وتملقوا وبالغوا فيه واللام في الثانية لتصديق رسالته وفي الثالثة لتكذيب المنافقين فيما كانوا يظهرونه من التصديق الذين هم على خلافه‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى في سورة يوسف عليه السلام‏:‏ ‏"‏ قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون ‏"‏ فإنه إنما جيء باللام ههنا لزيادة

التوكيد في إظهار المحبة ليوسف عليه السلام والإشفاق عليه ليبلغوا الغرض من أبيهم في السماحة بإرساله معهم ‏,‏ ومن هذا قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ أفرأيتم الماء الذي تشربون ‏,‏ أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون‏.‏ فلو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ‏"‏ ألا ترى كيف أدخلت اللام في آية المطعوم دون آية المشروب وإنما جاءت كذلك لأن جعل الماء العذب وكثيرا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذلك لم تدخل عليه لام التأكيد المفيدة

زيادة التحقيق وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع فلا

يكون إلا عن سخط من الله شديد فلذلك قرن بلام التأكيد زيادة في تحقيق أمره وتقريره

إيجاده‏.‏

ومما يتصل بذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون ‏"‏ واللام في ‏"‏ لنحن ‏"‏ هي اللام المشار إليها‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض

كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم

أمناً ‏"‏ فإن هذه اللام في قوله‏:‏ ‏"‏ ليستخلفنهم ‏"‏ و ‏"‏ ليمكنن ‏"‏ و ‏"‏ ليبدلنهم ‏"‏ إنما جاءت لتحقيق الأمر وإثباته في نفوس المؤمنين وأنه كائن لا محالة‏.‏

ومما يجري هذا المجرى في التوكيد لام الابتداء المحققة لما يأتي بعدها كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إذ قالوا

ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ‏"‏ فاللام في ‏"‏ ليوسف ‏"‏ لام الابتداء وفائدتها تحقيق مضمون

الجملة الواردة بعدها‏:‏ أي أن زيادة حبه إياهما أمر ثابت لا مراء فيه‏.‏

ومن هذا النوع قول بعضهم‏:‏

والشيب إن يظهر فإن وراءه عمرا يكون خلاله متنفس

لم ينتقص مني المشيب قلامة ولما بقي مني ألب وأكيس

فقوله ‏"‏ ولما بقي مني ‏"‏ تقديره وما بقي مني وإنما أدخل على ‏"‏ ما ‏"‏ هذه اللام قصداً لتأكيد المعنى لأنه موضع يحتاج إلى التأكيد ألا ترى أن قوة العمر في الشباب ولما أراد هذا الشاعر أن يصف الشيب وليس مما يوصف وإنما يذم أتى باللام لتؤكد ما قصده من الصفة‏.‏

وكذلك ورد قول الشاعر من أبيات الحماسة‏:‏

إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ونقيم سالفة العدو الأصيد

وهذا كثير سائغ في الكلام إلا أنه لا يتأتى لمكان العناية بما يعبر به عنه ألا ترى ألى قول

الشاعر‏:‏ ‏"‏ إنا لنصفح عن مجاهل قومنا ‏"‏ فإنه لما كان الصفح مما يشق على النفس فعله لأنه مقابلة الشر بالخير والإساءة بالإحسان أكده باللام تحقيقا له‏.‏

فإن عرى الموضع الذي يؤتى فيه بهذه

اللام من هذه الفائدة المشار إليها وما يجري مجراه فإن ورود اللام فيه لغير سبب اقتضاه‏.‏

وأكثر ما تستعمل هذه اللام في جواب القسم لتحقيق الأمر المقسم عليه وذلك في الإيجاب دون النفي لأنها لا تستعمل في النفي ألا ترى أنه لا يقال‏:‏ والله للا قمت وإنما يقال‏:‏ والله لا قمت لكن في الإيجاب تستعمل ويكون استعمالها حسنا كقولك‏:‏ والله لأقوم فإن أضيف إليها النونان الخفيفة والثقيلة كان ذلك أبلغ في التأكيد كقولك‏:‏ والله لأقومن وعلى ذلك وردت الآية المتقدم ذكرها وهي قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ‏"‏ وإن لم يكن جواباً للقسم فالنون الواردة

بعد اللام زيادة في التأكيد وهما تأكيدان أحدهما مردف بالآخر‏.‏

وكذلك فاعلم أن النون الثقيلة متصلة بهذا الباب فإذا استعملت في موضع فإنما يقصد بها

التأكيد‏.‏

فمما جاء منها قول البحتري في معاتبة الفتح بن خاقان‏:‏

هل يجلبن إلي عطفك موقف ثبت لديك أقول فيه وتسمع

فعلام أنكرت الصديق وأقبلت نحوي جناب الكاشحين تطلع

وأقام يطمع في تهضم جانبي من لم يكن من قبل فيه يطمع

إلا يكن ذنب فعدلك واسع أو كان لي ذنب فعفوك أوسع

وهذه أبيات حسنة مليحة في بابها يمحى بها حر الصدود ويستمال بها صعر الخدود وإنما

ذكرتها بجملتها لمكان حسنها والبيت الأول هو المراد ألا ترى أنه قال‏:‏ ‏"‏ هل يجلبن إلي عطفك

موقف ‏"‏ فالنون جاءت قصداً للتأكيد وهو في هذا المقام ممتن فأحب أن يؤكد هذه الأمنية وكل

ما يجيء من هذا الباب فإنه واقع هذا الموقع وإذا استعمل عبثا لغير فائدة تقتضيه فإنه لا يكون

استعماله إلا من جاهل بالأسرار المعنوية وأما ما يمثل به النحاة من قول القائل‏:‏ ‏"‏ والله لأقومن

فإنه مثال نحوي يضرب للجواز وإلا فإذا قال القائل‏:‏ والله لأقومن وأكده كان ذلك لغوا لأنه ليس في قيامه من الأمر العزيز ولا من الأمر العسير ما يحتاج معه إلى التأكيد بل لو قال والله لأقومن لك مهددا له لكان ذلك واقعا في موقعه فافهم هذا وقس عليه‏.‏

  النوع الثاني عشر في قوة اللفظ لقوة المعنى

هذا النوع قد ذكره أبو الفتح بن جني في كتاب ‏"‏ الخصائص ‏"‏ إلا أنه لم يورده كما أوردته أنا ولا نبه على ما نبهت عليه من النكت التي تضمنته وهذا يظهر بالوقوف على كلامي وكلامه فأقول‏:‏

اعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أكثر منه فلا بد من أن

يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلة على المعاني وأمثلة للإبانة عنها فإذا

زيد في الألفاظ أوجبت القسمة زيادة المعاني وهذا لا نزاع فيه لبيانه وهذا النوع لا يستعمل إلا

في مقام المبالغة‏.‏

فمن ذلك قولهم‏:‏ خشن واخشوشن فمعنى خشن دون معنى اخشوشن لما فيه من تكرير العين

وزيادة الواو نحو فعل وافعوعل وكذلك قولهم‏:‏ أعشب المكان فإذا رأوا كثرة العشب قالوا‏:‏

اعشوشب‏.‏

ومما ينتظم بهذا السلك قدر واقتدر فمعنى اقتدر أقوى من معنى قدر قال الله

تعالى‏:‏ ‏"‏ فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ‏"‏ فمقتدر هنا أبلغ من قادر وإنما عدل إليه للدلالة على

تفخيم الأمر وشدة الأخذ الذي لا يصدر إلا عن قوة الغضب أو للدلالة على بسطة القدرة

فإن المقتدر أبلغ في البسطة من القادر وذاك أن مقتدرا اسم فاعل من اقتدر وقادر اسم فاعل

من قدر ولا شك أن افتعل أبلغ من فعل‏.‏

فعفوت عني عفو مقتدر حلت له نقم فألفاها

أي عفوت عني عفو قادر متمكن القدرة لا يرده شيء عن إمضاء قدرته وأمثال هذا كثيرة‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى في سورة نوح عليه السلام‏:‏ ‏"‏ فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا ‏"‏ فإن

غفارا أبلغ في المغفرة من غافر لأن فعالا يدل على كثرة صدور الفعل وفاعلا لا يدل على

الكثرة ‏,‏ عليه ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ‏"‏ فالتواب هو الذي تتكرر منه التوبة

مرة على مرة وهو فعال وذلك أبلغ من التائب الذي هو فاعل فالتائب اسم فاعل من تاب يتوب

فهو تائب أي صدرت التوبة مرة واحدة فإذا قيل‏:‏ تواب كان صدور التوبة منه مرارا كثيرة‏.‏

وهذا وما يجري مجراه إنما يعمد إليه لضرب من التوكيد ولا يوجد ذلك إلا فيما معنى الفعلية

كاسم الفاعل والمفعول وكالفعل نفسه نحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فكُبكبوا فيها هم والغاوون ‏"‏ فإن معنى

كبكبوا من الكب وهو القلب إلا أنه مكرر المعنى وإنما استعمل في الآية دلالة على شدة

العقاب لأنه موضع يقتضي ذلك‏.‏

ولربما نظر بعض الجهال في هذا فقاس عليه زيادة التصغير وقال إنها زيادة ولكنها زيادة نقص لأنه في اللفظ حرف كقولهم في الثلاثي في رجل‏:‏ رجيل وفي الرباعي في قنديل‏:‏ قنيديل فالزيادة

وردت ههنا فنقصت من معنى هاتين اللفظتين وهذا ليس من الباب الذي نحن بصدد ذكره

لأنه عار عن معنى الفعلية لأن الأسماء التي لا معنى للفعل فيها إذا زيدت استحال معناها ألا

ترى أنا لو نقلنا لفظة عذب وهي ثلاثية إلى الرباعي فقلنا‏:‏ عذ يب على وزن جعفر لاستحال

معناها ولم يكن لها معنى وكذلك لو نقلنا لفظة عسجد وهي رباعية إلى الخماسي

فقلنا‏:‏ عسجدد على وزن جحمرش لاستحال معناها وهذا بخلاف ما فيه معنى الفعلية

كقادر ومقتدر فإن قادرا اسم فاعل قدر وهو ثلاثي ومقتدرا اسم فاعل اقتدر وهو

رباعي فلذلك كان معنى القدرة في اقتدر أشد من معنى القدرة في قدر وهذا لا نزاع فيه‏.‏

وهذا الباب بجملته لا يقصد به إلا المبالغة في إيراد المعاني وقد يستعمل في مقام المبالغة

فينعكس المعنى فيه إلى ضده كما جاء لأبي كرام التميمي من شعراء الحماسة وهو قوله‏:‏

لله تيم أي رمح طراد لاقى الحمام وأي نصل جلاد

ومحش حرب قدم متعرض للموت غير مكذب حياد

فلفظة ‏"‏ حياد ‏"‏ قد وردت ههنا‏:‏ وإنما أوردها هذا الشاعر وقصد بها المبالغة في وصف

شجاعة هذا الرجل فانعكس عليه المقصد الذي قصده لأن حيادا من حيد فهو حياد أي

وجد منه الحيدودة مرارا كما يقال‏:‏ قتل فهو قتال‏:‏ أي وجد منه القتل مرارا وإذا كان هذا الرجل

غير حياد كان حائدا أي وجدت منه الحيدودة مرة واحدة وإذا وجدت منه مرة كان ذلك

جبنا ولم يكن شجاعة والأولى أن كان قال‏:‏ غير مكذب حائد‏.‏

وينبغي أن يعلم أنه إذا وردت لفظة من الألفاظ ويجوز حملها على التضعيف الذي هو طريق

المبالغة وحملها على غيره أن ينظر فيها فإن اقتضى حملها على المبالغة فهو أوجه‏.‏

فمن ذلك قول البحتري في قصيدته التي مطلعها‏:‏

منى النفس في أسماء لو تستطيعها

وهي قصيدة مدح بها الخليفة المتوكل رحمه الله وذكر فيها حديث الصلح بين بني تغلب فمما

جاء فيها قوله‏:‏

رفعت بضبعي تغلب ابنة وائل وقد يئست أن يستقل صريعها

فكنت أمين الله مولى حياتها ومولاك فتح يوم ذاك شفيعها

تألفتهم من بعد ما شردت بهم حفائظ أخلاق بطيء رجوعها

فأبصر غاويها المحجة فاهتدى وأقصر غاليها ودانى شسوعها

فقوله ‏"‏ تألفتهم من بعد ما شردت بهم ‏"‏ يجوز أن تخفف لفظة ‏"‏ شردت ‏"‏ ويجوز أن تثقل والتثقيل

هو الوجه لأنه في مقام الإصلاح بين قوم تنازعوا واختلفوا وتباينت قلوبهم وآراؤهم وكل ما

وهنا نكتة لا بد من التنبيه عليها وذلك أن قوة اللفظ لقوة المعنى لا تستقيم إلا في نقل صيغة إلى

صيغة أكثر منها كنقل الثلاثي إلى الرباعي وإلا فإذا كانت صيغة الرباعي مثلا موضوعة لمعنى

فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة ألا ترى أنه إذا قيل في الثلاثي قتل

ثم نقل إلى الرباعي فقيل قتّل بتشديد التاء فإن الفائدة من هذا النقل هي التكثير‏:‏ أي أن القتل

وجد منه كثيرا وهذا الصيغة الرباعية بعينها لو وردت من غير نقل لم تكن دالة على التكثير

كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وكلم الله موسى تكليما ‏"‏ فإن كلم على وزن قتل ولم يرد به التكثير بل أريد به أنه

خاطبه سواء كان خطابه إياه طويلا أو قصيرا قليلا أو كثيرا وهذه اللفظة الرباعية وليس لها

ثلاثي نقلت عنه إلى الرباعي لكن قد وردت بعينها ولها ثلاثي ورباعي فكان الرباعي أكثر

وأقوى فيما دل عليه من المعنى وذاك أن تكون كلّم من الجرح أي جرح ولها ثلاثي وهو كَلم

مخففا‏:‏ أي جرح فإذا وردت مخففة دلت على الجراحة مرة واحدة وإذا وردت مثقلة دلت على

التكثير‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى‏:‏‏:‏ ‏"‏ ورتل القرآن ترتيلا ‏"‏ فإن لفظة ‏"‏ رتل ‏"‏ على وزن لفظة قتل ومع هذا

ليست دالة على كثرة القراءة وإنما المراد بها أن تكون القراءة على هيئة التأني والتدبر وسبب

ذلك أن هذه اللفظة لا ثلاثي لها حتى تنقل عنه إلى رباعي وإنما هي رباعية موضوعة لهذه

الهيئة المخصوصة من القراءة وعلى هذا فلا يستقيم معنى الكثرة والقوة في اللفظ والمعنى إلا

بالنقل من وزن إلى وزن أعلى منه فاعرف ذلك‏.‏

ومن ههنا شذ الصواب عمن شذ عنه في عالم وعليم فإن جمهور علماء العربية يذهبون إلى أن

عليما أبلغ في معنى العلم من عالم وقد تأملت ذلك وأنعمت نظري فيه فحصل عندي شك في

الذي ذهبوا إليه والذي أوجب ذلك الشك هو أن عالما وعليما على عدة واحدة إذ كل منهما

أربعة أحرف وليس بينهما زيادة ينقل فيها الأدنى إلى الأعلى والذي يوجبه النظر أن يكون الأمر على عكس ما ذكروه وذاك أن يكون عالم أبلغ من عليم وسببه أن عالما اسم فاعل من علم

وهو متعد وأن عليما اسم فاعل من علم إلا أنه أشبه وزن الفعل القاصر نحو شرف فهو

شريف وكرم فهو كريم وعظم فهو عظيم فهذا الوزن لا يكون إلا في الفعل القاصر فلما

أشبهه عليم انحط عن رتبة عالم الذي هو متعد ألا ترى أن فعل بفتح الفاء وكسر العين يكون

متعديا نحو علم وحمد ويكون قاصرا غير متعد ولما كان فعل بفتح الفاء وكسر العين مترددا بين المتعدي والقاصر وكان فعل بفتح الفاء وضم العين قاصرا غير متعد صار القاصر أضعف مما يدور بين المتعدي والقاصر وحيث كان الأمر كذلك وأشبه وزن المتعدي وزن القاصر حط

ذلك من درجته وجعله في الرتبة دون المتعدي الذي ليس بقاصر هذا هو الذي أوجب

التشكيك فيما ذهب إليه غيري من علماء العربية ولربما كان ما ذهبوا إليه لأمر خفي عني ولم

أطلع عليه‏.‏

  النوع الثالث عشر في عكس الظاهر

وهو نفي الشيء بإثباته وهو من مستطرفات علم البيان وذاك أنك تذكر كلاما يدل ظاهره أنه

نفي لصفة الموصوف وهو نفي للموصوف أصلا‏.‏

فمما جاء منه قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصف مجلس رسول الله صلى الله

عليه وسلم ‏"‏ لا تنثى فلتاته ‏"‏ أي لا تذاع سقطاته فظاهر هذا اللفظ أنه كان ثم فلتات غير أنها لا

تذاع وليس المراد ذلك بل المراد أنه لم يكن ثم فلتات فتثنى وهذا من أغرب ما توسعت فيه

اللغة العربية وقد ورد في الشعر كقول بعضهم‏:‏

ولا ترى الضّبّ بها ينجحر فإن ظاهر المعنى من هذا البيت أنه كان هناك ضب ولكنه غير منحجر وليس كذلك بل المعنى أنه لم يكن هناك ضب أصلا‏.‏

وهذا النوع من الكلام قليل الاستعمال وسبب ذلك أن الفهم يكاد يأباه ولا يقبله إلا بقرينة

خارجة عن دلالة لفظه على معناه وما كان عاريا عن قرينة فإنه لا يفهم منه ما أراد قائله‏.‏

وسأوضح ذلك فأقول‏:‏ أما قولنا عن مجلس رسول الله ‏)‏‏"‏ لا تثنى فلتاته ‏"‏ فإن مفهوم هذا اللفظ

أنه كان هناك فلتات إلا أنها تطوى ولا تنشر وتكتم ولا تذاع ولا يفهم منه أنه لم يكن هناك فلتات إلا بقرينة خارجة عن اللف وهي أنه قد ثبت في النفوس وتقرر عند العقول أن مجلس رسول الله ‏)‏منزه عن فلتات تكون به وهو أكرم من ذلك وأوقر فلما قيل‏:‏ إنه لا يثنى فلتاته فهمنا منه أنه لم يكن هناك فلتات أصلا وأما قول القائل‏:‏

ولا ترى الضب بها ينجحر

فإنه لا قرينة تخصصه حتى يفهم منه ما فهم من الأول بل المفهوم أنه كان هناك ضب ولكنه

غير منجحر‏.‏

ولقد مكثت زمانا أطوف على أقوال الشعراء قصداً للظفر بأمثلة من الشعر جارية هذا المجرى

فلم أجد إلا بيتا لامرئ القيس وهو‏:‏

على لاحب لا يُهتدي لمناره إذا سافه العود الديافي جرجرا

فقوله ‏"‏ لا يهتدي لمناره ‏"‏ أي أن له منارا إلا أنه لا يهتدي به وليس المراد ذلك بل المراد أنه لا

ولي أنا في هذا بيت من الشعر وهو‏:‏

أدنين جلباب الحياء فلن يرى لذيولهن على الطريق غبار

وظاهر هذا الكلام أن هؤلاء النساء يمشين هونا لحيائهن فلا يظهر لذيولهن غبار على

الطريق وليس المراد ذلك بل المراد أنهن لا يمشين على الطريق أصلا أي أنهن مخبآت لا يخرجن من بيوتهن فلا يكون إذا لذيولهن على الطريق غبار وهذا حسن رائق وهو أظهر بياناً من قوله

ولا ترى الضب بها ينجحر

فمن استعمل هذا النوع من الكلام فليستعمله هكذا وإلا فليدع على أن الإكثار من استعماله

عسر لأنه لا يظهر المعنى فيه‏.‏

  النوع الرابع عشر في الاستدراج

وهذا الباب أنا استخرجته من كتاب الله تعالى وهو مخادعات الأقوال التي تقوم مقام مخادعات

الأفعال والكلام فيه وإن تضمن بلاغة فليس الغرض ههنا ذكر بلاغته فقط بل الغرض ذكر ما

تضمنه من النكت الدقيقة في استدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم وإذا حقق النظر فيه علم

أن مدار البلاغة كلها عليه لأنه انتفاع بإيراد الألفاظ المليحة الرائقة ولا المعاني اللطيفة الدقيقة

دون أن تكون مستجلبة لبلوغ غرض المخاطب بها والكلام في مثل هذا ينبغي أن يكون قصيرا

في خلابه لا قصيرا في خطابه فإذا لم يتصرف الكاتب في استدراج الخصم إلى إلقاء يده وإلا

فليس بكاتب ولا شبيه له إلا صاحب الجدل فكما أن ذاك يتصرف في المغالطات القياسية

فكذلك هذا يتصرف في المغالطات الخطابية‏.‏

وقد ذكرت هذا النوع ما يتعلم منه سلوك هذه الطريق‏.‏

فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي

يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ‏"‏ ألا ترى ما أحسن مأخذ هذا الكلام وألطفه

فغنه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال‏:‏ لا يخلو هذا الرجل من أن يكون كاذبا فكذبه

يعود عليه ولا يتعداه أو يكون صادقا وإن يكن صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن تعرضتم

له وفي هذا الكلام من حسن الأدب والإنصاف ما أذكره لك فأقول‏:‏ إنما قال ‏"‏ يصبكم بعض

الذي ‏"‏ وقد علم أنه نبي صادق وأن كل ما يعدهم به لا بد وأن يصيبهم لا بعضه لأنه احتاج في

مقاولة خصوم موسى عليه السلام أن يسلك معهم طريق الإنصاف والملاطفة في القول ويأتيهم

من جهة المناصحة ليكون أدعى إلى سكونهم إليه فجاء بما علم أنه أقرب إلى تسليمهم لقوله

وأدخل في تصديقهم إياه فقال ‏"‏ وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم ‏"‏ وهو كلام المنصف في مقابلة غير المشتط وذلك أنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد به لكنه أردف بقوله ‏"‏ ‏"‏ يصبكم بعض الذي يعدكم ‏"‏ ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافيا فضلا عن أن يتعصب له وتقديم الكاذب على الصادق من هذا القبيل كأنه برطلهم في صدر الكلام بما يزعمونه لئلا ينفروا منه وكذلك قوله في آخر الآية‏:‏ ‏"‏ إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ‏"‏ أي هو على الهدى ولو كان مسرفا كذابا لما هداه الله للنبوة ولا عضده بالبينات وفي هذا الكلام من خداع الخصم واستدراجه ما لا خفاء به وقد تضمن من اللطائف الدقيقة ما إذا تأملته حق التأمل أعطيته حقه من الوصف‏.‏

ومما يجري على هذا الأسلوب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ‏"‏ هذا كلام يهز أعطاف السامعين وفيه من الفوائد ما أذكره وهو لما أراد إبراهيم عليه السلام أن ينصح أباه ويعظه وينقذه مما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل رتب الكلام معه في أحسن نظام مع استعمال المجاملة واللطف والأدب الحميد والخلق الحسن مستنصحا في ذلك

بنصيحة ربه وذاك أنه طلب منه أولاً العلة في خطيئته طلب منبه على تماديه موقظ غفلته لأن

المعبود لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا مقتدرا على الثواب والعقاب إلا أنه بعض الخلق يستخف عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيين فكيف بمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر يعني به الصنم ثم ثنى ذلك بدعوته إلى الحق مترفقا به فلم يسم أباه بالجهل المطلق ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال‏:‏ إن معي لطائفة من العلم وشيئا منه

وذلك علم الدلالة على سلوك الطريق فلا تستنكف وهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة

بهداية الطرق دونك فاتبعني أنجك من أن تضل ثم ثلث ذلك بتثبيطه عما كان عليه ونهيه فقال‏:‏ إن الشيطان الذي استعصى على ربك وهو عدوك وعدو أبيك آدم هو الذي ورطك في هذه

الورطة وألقاك في هذه الضلالة وإنما ألغى إبراهيم عليه السلام ذكر معاداة الشيطان إلا التي

تختص بالله وهي عصيانه واستكباره ولم يلتفت إلى ذكر معاداته آدم وذريته ثم ربّع ذلك

بتخويفه إياه سوء العاقبة فلم يصرح بأن العقاب لاحق به ولكنه قال‏:‏ ‏"‏ إني أخاف أن يمسك

عذاب ‏"‏ فنكر العذاب ملاطفة لأبيه وصدر كل نصيحة من هذه النصائح بقوله ‏"‏ يا أبت ‏"‏ توسلا

إليه واستعظاما وهذا بخلاف ما أجابه به أبوه فإنه قال‏:‏ ‏"‏ أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم ‏"‏

فأقبل عليه بفظاظة الكفر وغلظ العناد فناداه باسمه ولم يقابل قوله يا أبت بقوله يا بني وقدم

الخبر على المبتدأ في قوله ‏"‏ أراغب أنت ‏"‏ لأنه كان أهم عنده وفيه ضرب من التعجب والإنكار

لرغبة إبراهيم عن آلهته‏.‏

وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة من هذا الجنس لا سيما في مخاطبات الأنبياء صلوات الله عليهم للكفار وفي هذين المثالين المذكورين ههنا كفاية ومقنع ‏,‏

وبلغني حديث تفاوض فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما ومعاوية بن أبي سفيان في أمر

ولده يزيد وذاك أن معاوية قال للحسين‏:‏ أما أمك فاطمة فإنها خير من أمه وبنت رسول الله

صلى الله عليه وسلم خير من امرأة من كلب وأما حبي يزيد فإني لو أعطيت به مثلك ملء

الغوطة لما رضيت وأما أبوك وأبوه فإنهما تحاكما إلى الله فحكم لأبيه على أبيك وهذا كلام من

معاوية كلما أمررته بفكري عجبت من سداده فضلا عن بلاغته وفصاحته فإن معاوية علم ما

لعلي رضي الله عنه من السبق إلى الإسلام والأثر فيه وما عنده من فضيلة العلم فلم يعرض

في المنافرة إلى شيء من ذلك ولم يقل أيضا‏:‏ إن الله أعطاني الدنيا ونزعها منكم لأن هذا لا

فضل فيه إذ الدنيا ينالها البر والفاجر وإنما صانع عن ذلك كله بقوله‏:‏ ‏"‏ إن أباك وأباه تحاكما إلى

الله فحكم لأبيه على أبيك ‏"‏ وهذا قول إيهامي يوهم شبهة من الحق وإذا شاء من شاء أن ينافر

خصمه ويستدرجه إلى الصمت عن الجواب فليقل هكذا ‏,‏

  النوع الخامس عشر في الإيجاز

وهو حذف زيادات الألفاظ وهذا نوع من الكلام شريف لا يتعلق به إلا فرسان البلاغة من

سبق الى غايتها وما صلى وضرب في أعلى درجاتها بالقدح المعلى وذلك لعلو مكانه وتعذر

إمكانه‏.‏

والنظر فيه إنما هو إلى المعاني لا إلى الألفاظ ولست أعني بذلك أن تهمل الألفاظ بحيث تعرى

عن أوصافها الحسنة بل أعني أن مدار النظر في هذا النوع إنما يختص بالمعاني فرب لفظ قليل

يدل على معنى كثير ورب لفظ كثير يدل على معنى قليل ومثال هذا كالجوهرة الواحدة بالنسبة

إلى الدراهم الكثيرة فمن ينظر إلى طول الألفاظ يؤثر الدراهم بكثرتها ومن ينظر إلى شرف

المعاني يؤثر الجوهرة الواحدة لنفاستها ولهذا سمى النبي صلى اله عليه وسلم الفاتحة أم الكتاب

وإذا نظرنا إلى مجموعها وجدناه يسيرا وليست من الكثرة إلى غاية تكون بها أم البقرة وآل عمران والكلام في هذا الموضع يخرج بنا إلى غير ما نحن بصدده لأنه يحتاد فيه إلى ذكر المراد بالقرآن الكريم وما يشتمل عليه سوره وآياته إلى حصر أقسام معانيه لكنا نشير في ذلك إشارة خفيفة فنقول‏:‏

المراد بالقرآن هو دعوة العباد إلى الله تعالى ولذلك انحصرت سوره وآياته في ستة أقسام ثلاثة

منها هي الأصول وثلاثة هي الفروع‏.‏

أما الأصول فالأول منها‏:‏ تعريف المدعو إليه وهو الله تعالى ويشتمل هذا الأصل على ذكر ذاته

وصفاته وأفعاله والأصل الثاني‏:‏ تعريف الصراط المستقيم الذي تجب ملازمته في السلوك إلى الله تعالى ويشتمل هذا الأصل على التبتل بعبادة الله بأفعال القلوب وأفعال الجوارح

والأصل الثالث‏:‏ تعريف الحال بعد الوصول إلى الله تعالى ويشتمل هذا الأصل على تفصيل أحوال الدار الآخرة

من الجنة والنار والصراط والميزان والحساب وأشباه ذلك فهذه الأصول الثلاثة‏.‏

وأما الفروع فالأول منها‏:‏ تعريف أحوال المجيبين للدعوة ولطائف صنع الله بهم من النصرة

والإدالة وتعريف أحوال المخالفين للدعوة والمحادين لها وكيفية صنع الله في التدمير عليهم والتنكير

بهم والفرع الثاني‏:‏ ذكر مجادلة الخصوم ومحاجتهم وحملهم بالمجادلة والمحاجة على طريق الحق

وهؤلاء هم اليهود والنصارى ومن يجري مجراهم من أرباب الشرائع والفلاسفة والملحدة من غير أرباب الشرائع والفرع الثالث‏:‏ تعريف عمارة منازل الطريق وكيفية أخذ الزاد والأهبة

للاستعداد وذاك قياس الشريعة وتبيين الحكمة في أوامرها التي تتعلق بأفعال أهل التكليف‏.‏

فهذه الأقسام الستة المشار إليها هي التى تدور معاني القرآن عليها ولا تتعداها وههنا تقسيم

آخر يطول الخطاب فيه ولا حاجة إلى ذكره‏.‏

وإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وتأملنا ما فيها من المعاني وجدناها مشتملة على أربعة أقسام من

الستة المذكورة ولذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أم الكتاب ‏"‏ كما أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن سورة

الإخلاص تعدل ثلث القرآن ‏"‏ وإذا نظرنا في الأقسام الستة وجدنا سورة الإخلاص بمنزلة ثلث

القرآن وكذلك قال صلى الله عليه وسلم ‏"‏ آية الكرسي سيدة آي القرآن ‏"‏ ويروى أنه سأل أبي بن كعب رضي الله عنه فقال‏:‏ ‏"‏ أي آية معك في كتاب الله أعظم‏.‏

فقال‏:‏ الله لا إله إلا هو الحي القيوم فضرب على صدره وقال‏:‏ ليهنك العلم أبا المنذر ‏"‏ وكل هذا يرجع إلى المعاني لا إلى الألفاظ فاعرف ذلك وبينه لرموزه وأسراره‏.‏

واعلم أن جماعة من مدعي علم البيان ذهبوا إلى أن الكلام ينقسم قسمين‏:‏ فمنه ما يحسن فيه

الإيجاز كالأشعار والمكاتبات ومنه ما يحسن فيه التطويل كالخطب والتقليدات وكتب الفتوح

التي تقرأ في ملأ من عوام الناس فإن الكلام إذا طال في مثل ذلك أثر عندهم وأفهمهم ولو اقتصر فيه على الإيجاز والإشارة لم يقع لأكثرهم حتى يقال في ذكر الحرب‏:‏ التقى الجمعان وتطاعن الفريقان واشتد القتال وحمي النضال وما جرى هذا المجرى‏.‏

والمذهب عندي في ذلك ما أذكره وهو أن يفهم العامة ليس شرطا معتبرا في اختيار الكلام

لأنه لو كان شرطا لوجب على قياسه أن يستعمل في الكلام الألفاظ العامية المبتذلة عندهم

ليكون ذلك أقرب إلى فهمهم لأن العلة في اختيار تطويل الكلام إذا كانت فهم العامة إياه فكذلك

تجعل تلك العلة بعينها في اختيار المبتذل من الكلام فإنه لا خلاف في أن العامة إلى فهمه اقرب

من فهم ما يقل ابتذالهم إياه وهذا شيء مدفوع وأما الذي يجب توخيه واعتماده فهو أن يسلك

المذهب القويم في تركيب الألفاظ على المعاني بحيث لا تزيد هذه على هذه مع الإيضاح

والإبانة وليس على مستعمل ذلك أن يفهم العامة كلامه فإن نور الشمس إذا لم يره الأعمى لا

يكون ذلك نقصا في استنارته وإنما النقص في بصر الأعمى حيث لم يستطع النظر إليه‏.‏

علي نحت القوافي من معادنها وما علي بأن لا تفهم البقر

وحيث انتهى بنا القول إلى هذا الموضع فلنرجع إلى ما هو غرضنا ومهمنا من الكلام على

الإيجاز وحده وأقسامه ونوضح ذلك إيضاحا جليا والله الموفق للصواب‏.‏

فنقول‏:‏ حد الإيجاز هو دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه والتطويل هو ضد ذلك

طلوع الثنايا بالمطايا وسابق إلى غاية من يبتدرها يقدم

فصدر هذا البيت فيه تطويل لا حاجة إليه وعجزه من محاسن الكلام المتواصفة وموضع

التطويل من صدره أنه قال‏:‏ ‏"‏ طلوع الثنايا بالمطايا ‏"‏ فإن لفظة المطايا فضلة لا حاجة إليها وبيان

ذلك أنه لا يخلو الأمر فيها من وجهين‏:‏ إما أن يريد أنه سابق الهمة إلى معالي الأمور كما قال

الحجاج على المنبر عند وصوله العراق‏:‏

أنا ابن جلا وطلاع الثنايا

أي أنا الرجل المشهور السابق إلى معالي الأمور فإن أراد العجير بقوله ‏"‏ طلوع الثنايا ‏"‏ ما أشرت إليه فذكر المطايا يفسد ذلك المعنى لأن معالي الأمور لا يرقى إليها بالمطايا وإن أراد الوجه الآخر وهو أنه كثير الإسفار فاختصاصه الثنايا بالذكر دون الأرض من المفاوز وغيرها لا فائدة فيه وعلى كلا الوجهين فإن ذكر المطايا فضلة لا حاجة إليه وهو تطويل بارد عث‏.‏

فقس على هذا المثال ما يجري مجراه من التطويلات التي إذا أسقطت من الكلام بقي على حاله

لم يتغير شيء‏.‏

وكذلك يجري الأمر في ألفاظ يوصل بها الكلام فتارة تجيء لفائدة وذلك قليل وتارة تجيء لغير

فائدة وذلك كثير وأكثر ما ترد في الأشعار ليوزن بها الأبيات الشعرية وذلك نحو قولهم‏:‏ لعمري ولعمرك ونحو أصبح وأمسى وظل وأضحى وبات وأشبها ذلك ونحو يا صاحبي ويا خليلي وما يجري هذا المجرى ‏,‏

فمما جاء منه قول أبي تمام‏:‏

أقروا لعمري لحكم السيوف وكانت أحق بفضل القضاء

فإن قوله ‏"‏ لعمري ‏"‏ زيادة لا حاجة للمعنى إليها وهي حشو في هذا البيت لا فائدة فيه إلا

إصلاح الوزن لا غير ألا ترى أنها من باب القسم وإنما يرد القسم في موضع يؤكد به المعنى

المراد إما أنه مما يشك فيه أو مما يعز وجوده أو ما جرى هذا المجرى وهذا البيت الشعري لا

يفتقر معناه إلى توكيد قسمي إذ لا شك في أن السيوف حاكمة وأن كل أحد يقر لحكمها

ويذعن لطاعتها وكذلك قوله‏:‏ أيضا‏:‏

إذا أنا لم ألم عثرات الدهر بليت به الغداة فمن ألوم

فقوله ‏"‏ الغداة ‏"‏ زيادة لا حاجة للمعنى إليها لأنه يتم بدونها لأن عثرات الدهر لم تنله الغداة ولا

العشي وإنما نالته ونيلها إياه لا بد وأن يقع في زمن من الأزمنة كائنا ما كان ولا حاجة إلى

تعيينه بالذكر‏.‏

وعلى هذا ورد قول البحتري‏:‏

فقوله ‏"‏ يا صاحبي ‏"‏ زيادة لا حاجة بالمعنى إليها إلا أنها وردت لتصحيح الوزن لا غير‏.‏

وهذه الألفاظ التي ترد في الأبيات الشعرية لتصحيح الوزن لا عيب فيها لأنا لو عبناها على

الشعراء لحجرنا عليهم وضيقنا والوزن يضطر في بعض الأحوال إلى مثل ذلك لكن إذا وردت

في الكلام المنثور فإنها إن وردت حشوا ولم ترد لفائدة كانت عيبا‏.‏

وقد ترد في الأبيات الشعرية ويكون ورودها لفائدة وذلك هو الأحسن كقول البحتري‏:‏

قوم أهانوا الوفر حتى أصبحوا أولى الأنام بكل عرض وافر

فقوله‏:‏ ‏"‏ أصبحوا ‏"‏ بمعنى صاروا أولى الناس بالأعراض الوافرة وهذه اللفظة لم ترد في هذا البيت حشوا كما وردت في بيتي أبي تمام المقدم ذكرهما‏.‏

وسأزيد هذا الموضع بياناً بمثال أضربه للتطويل حتى يستدل به على أمثاله وأشباهه والمثال

الذي أضربه هو حكاية أوردت بمحضر مني وذاك أنه جلس إلي في بعض الأيام جماعة من

الإخوان وأخذوا في مفاوضة الأحاديث وانساق ذلك إلى ذكر غرائب الوقائع التي تقع في العالم

فذكر كل من الجماعة شيئا فقال شخص منهم‏:‏ إني كنت بالجزيرة العمرية في زمن الملك فلان

وكنت إذ ذاك صبيا صغيرا فاجتمعت أنا ونفر من الصبيان في الحارة الفلانية وصعدنا إلى

سطح طاحون لبني فلان وأخذنا نلعب على السطح فوقع صبي منا إلى أرض الطاحون فوطئه

بغل من بغال الطاحون فخفنا أن يكون أذاه فأسرعنا النزول إليه فوجدناه قد وطئه البغل

فختنه ختانة صحيحة حسنة لا يستطيع الصانع الخاذق أن يفعل خيرا منها فقال له شخص من

الحاضرين‏:‏ والله إن هذا عيّ فاحش وتطويل كثير لا حاجة إليه فإنه بصدد أن تذكر أنك كنت

صبيا تلعب مع الصبيان على سطح الطاحون فوقع صبي منكم إلى أرض الطاحون فوطئه بغل

من بغال الطاحون فختنه ولم يؤذه ولا فرق بين أن تكون هذه الواقعة في بلد نعرفه أو في بلد لا نعرفه ولو كانت بأقصى المشرق أو بأقصى المغرب لم يكن ذلك قدحا في غرابتها وأما أن تذكر أنها كانت بالجزيرة العمرية في الحارة الفلانية في طاحون بني فلان وكان زمن الملك فلان فإن مثل هذا كله تطويل لا حاجة إليه والمعنى المقصود يفهم دونه‏.‏

فاعلم أيها الناظر في كتابي هذا أن التطويل هو زيادات الألفاظ في الدلالة على المعاني ومهما

أمكنك حذف شيء من اللفظ في الدلالة على معنى من المعاني فإن ذلك اللفظ هو التطويل

بعينه‏.‏

وأما الإيجاز فقد عرفتك أنه دلالة اللفظ على المعنى من غير أن يزيد عليه‏.‏

وهو ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما الإيجاز بالحذف وهو ما يحذف منه المفرد والجملة لدلالة فحوى

الكلام على المحذوف ولا يكون فيما زاد معناه على لفظه والقسم الآخر‏:‏ ما لا يحذف منه

شيء وهو ضربان أحدهما‏:‏ مأساوي لفظه معناه ويسمى التقدير والآخر ما زاد معناه على

لفظه ويسمى القصر‏.‏

واعلم أن القسم الأول الذي هو الإيجاز بالحذف يتنبه له من غير كبير كلفة في استخراجه لمكان المحذوف عنه‏.‏

وأما القسم الثاني فإن التنبه له عسر لأنه يحتاج إلى فضل تأمل وطول فكرة لخفاء ما يستدل

عليه ‏,‏ ولا يستنبط ذلك إلا من رست قدمه في ممارسة علم البيان وصار له خليقة وملكة ولم

أجد أحدا علم هذين القسمين بعلامة ولا قيدهما بقيد وقد أشرت إلى ذلك فيما يأتي من هذا

الباب عند تفصيل أمثلتهما فليؤخذ من هناك‏.‏

فإن قيل إن هذا التقسيم الذي قسمته في المحذوف وغير المحذوف ليس بصحيح لأن المعاني

ليس أجساما كالألفاظ حتى يصح التقدير بينهما ثم لو سلمت جواز التقدير في المساواة لم أسلم

لجواز الزيادة فليس لقائل أن يقول‏:‏ هذا المعنى زائد على هذا اللفظ لأنه إن قال ذلك قيل فمن

أين فهمت تلك الزيادة الخارجة عن اللفظ وقد علم أن الألفاظ إنما وضعت للدلالة على إفهام

المعاني فإن قال‏:‏ إنها فهمت من شيء خارج عن اللفظ قيل له‏:‏ فتلك الزيادة بإزاء ذلك الشيء

الخارج عن اللفظ والباقي مساو اللفظ وإن قال‏:‏ إنها فهمت من اللفظ قيل‏:‏ فكيف تفهم منه

وهي زائدة عليه فإن قال‏:‏ إنها فهمت من تركيبه لأن التركيب أمر زائد على اللفظ قيل‏:‏ الألفاظ تدل بانفرادها على معنى وبتركيبها على معنى آخر واللفظ المركب يدل على معنى

مركب واللفظ المفرد يدل على معنى مفرد وتلك الزيادة إن أريد بها زيادة معنى المركب على

المركب فلا يخلو‏:‏ إما أن تكون تلك الزيادة مفهومة من دلالة اللفظ المركب عليه إذ لو كانت

زائدة عليه لما دل عليها وإن كانت مفهومة من دلالة الشيء الخارج عنه فهي بإزاء ذلك الشيء

الخارج والباقي مساو للباقي‏.‏

فالجواب عن ذلك أن نقول‏:‏ هذا الذي ذكره كلام شبيه بالسفسطة وهو باطل من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المعاني إذا كانت لا تزيد على الألفاظ فيلزم من ذلك أن الألفاظ لا تزيد أيضاً على المعاني لأنهما متلازمان على قياسك ونحن نرى معنى قد يدل عليه بألفاظ فإذا أسقط من تلك

الألفاظ شيء لا ينقص ذلك المعنى بل يبقى على حاله والوجه الآخر‏:‏ إن الإيجاز بالحذف أقوى دليلا على زيادة المعاني على الألفاظ لأنا نرى اللفظ يدل على معنى لم يتضمنه وفهم ذلك المعنى ضرورة لا بد منه فعلمنا حينئذ أن ذلك المعنى الزائد على اللفظ مفهوم من دلالته عليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن المعنى الزائد على اللفظ المحذوف لا بد له من تقدير لفظ آخر يدل عليه وتلك

الزيادة بإزاء اللفظ المقدر‏.‏

قلت في الجواب عن ذلك‏:‏ هذا لا ينقض ما ذهبت إليه من زيادة المعنى على اللفظ لأن المعنى

ظاهر واللفظ الدال عليه مضمر وإذا كان مضمرا فلا ينطق به وإذا لم ينطق به فكأنه لم يكن

وحينئذ يبقى المعنى موجودا واللفظ الدال عليه غير موجود وكذلك كل ما يعلم من المعاني

بمفهوم الخطاب ألا ترى أنك إذا قلت لمن دخل عليك‏:‏ أهلا وسهلا علم أن الأهل والسهل

منصوبان بعامل محذوف تقديره وجدت أهلا ولقيت سهلا إلا أن لفظتي وجدت ولقيت

محذوفتان والمعنى الذي دل عليه باق فصار المعنى حينئذ مفهوما مع حذفهما فهو إذا زائد لا

محالة وكذلك جميع المحذوفات على اختلافها وتشعب مقاصدها وهذا لا نزاع فيه لبيانه

ووضوحه‏.‏

وقد سنح لي في زيادة المعنى على اللفظ في غير المحذوفات دليل أنا ذاكره وهو أنا نجد من

الكلام ما يدل على معنيين وثلاثة واللفظ واحد والمعاني التي تحته متعددة ‏,‏

فأما الذي يدل على معنيين فالكنايات جميعها كالذي ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه

وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا خرجوا من عنده لا يتفرقون إلا عن ذواق

وهذا يدل على معنيين أحدهما إطعام الطعام أي أنهم لا يخرجون من عنده حتى يطعموا

الآخر‏:‏ أنهم لا يتفرقون إلا عن استفادة علم وأدب يقوم لأنفسهم مقام الطعام لأجسامهم‏.‏

وأظلم أهل الظلم من بات حاسدا لمن بات في نعمائه يتقلب

فهذا يدل على ثلاث معان‏:‏ الأول‏:‏ أنه يحسد من أنعم عليه الثاني‏:‏ ضد الأول الثالث‏:‏ أنه يحسد

كل رب نعمة كائنا من كان‏:‏ أي يحسد من بات في نعماء نفسه يتقلب‏.‏

وهذا وأمثاله من أدل الدليل على زيادة المعنى على اللفظ وهو شيء استخرجته ولم يكن

لأحد فيه قول سابق‏.‏

وحيث فرغنا من الكلام على هذا الموضع فلنتبعه بذكر أقسام الإيجاز المشار إليها أولاً وما

ينصرف إليه فنقول الايجاز بالحذف

أما الإيجاز بالحذف فإنه عجيب الأمر شبيه بالسحر وذاك أنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من

الذكر والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق وأتم ما تكون مبينا

إذا لم تبين وهذه جملة تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر‏.‏

والأصل في المحذوفات جميعها على اختلاف ضروبها أن يكون في الكلام ما يدل على المحذوف فإن لم يكن هناك دليل على المحذوف فإنه لغو من الحديث لا يجوز بوجه ولا سبب ومن شرط المحذوف في حكم البلاغة أنه متى أظهر صار الكلام إلى شيء غث لا يناسب ما كان عليه

أولاً من الطلاوة والحسن وقد يظهر المحذوف بالإعراب‏:‏ كقولنا‏:‏ وسهلا فإن نصب الأهل والسهل يدل على ناصب محذوف وليس هذا من الحسن ما للذي لا يظهر بالإعراب وإنما يظهر بالنظر إلى تمام المعنى كقولنا‏:‏ فلان يحل ويعقد فإن ذلك لا يظهر المحذوف فيه بالإعراب وإنما يظهر بالنظر إلى تمام المعنى أي أنه يحل الأمور ويعقدها والذي يظهر بالإعراب يقع في المفردات من المحذوفات كثيرا والذي لا يظهر بالإعراب يقع في الجمل من المحذوفات كثيرا‏.‏

وسأذكر في كتابي هذا ما وصل إلي علمه وهو ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما‏:‏ حذف الجمل والأخر

حذف المفردات وقد يرد كلام بعض المواضع ويكون مشتملا على القسمين معا‏.‏

  القسم الاول حذف الجمل

فأما القسم الأول وهو الذي تحذف منه الجمل فإنه ينقسم إلى قسمين أيضا‏:‏ أحدهما حذف

الجمل المفيدة التي تستقل بنفسها كلاما وهذا أحسن المحذوفات جميعها وأدلها على الاختصار

ولا تكاد تجده إلا في كتاب الله تعالى والقسم الآخر‏:‏ حذف الجمل غير المفيدة وقد وردا ههنا مختلطين وجملتهما أربعة أضرب‏:‏

حذف السؤال المقدر

ويسمى الاستئناف ويأتي على وجهين

الوجه الأول إعادة الأسماء والصفات

وهذا يجيء تارة بإعادة اسم من تقدم الحديث عنه كقولك‏:‏ أحسنت إلى زيد زيد حقيق

بالإحسان وتارة يجيء بإعادة صفته كقولك‏:‏ أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك

منك وهو أحسن من الأول وأبلغ لانطوائه على بيان موجب للإحسان وتخصيصه ‏,‏

فمما ورد من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين‏.‏

الذين يؤمنون

بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ‏"‏ والاستئناف واقع في هذا الكلام على ‏"‏ أولئك ‏"‏ لأنه لما قال ‏"‏ ألم ذلك الكتاب ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ بالآخرة هم يوقنون ‏"‏ اتجه لسائل أن يقول‏:‏ ما بال المستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى فأجيب بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلا وبالفلاح آجلا‏.‏

الاستئناف بغير إعادة الأسماء والصفات

وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن

الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون‏.‏ إني إذا لفي ضلال مبين‏.‏ إإني آمنت بربك فاسمعون‏.‏ قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ‏"‏

فمخرج هذا القول مخرج الاستئناف لأن ذلك من مظان المسألة عن حاله عند لقاء ربه وكأن

قائلا قال‏:‏ كيف حال هذا الرجل عند لقاء ربه بعد ذلك التصلب في دينه والتسخي لوجهه

بروحه فقيل‏:‏ قيل ادخل الجنة ولم يقل قيل له لانصباب الغرض إلى المقول لا إلى المقول له مع كونه معلوما وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يا ليت قومي يعلمون ‏"‏ مرتب على تقدير سؤال سائل عما وجد‏.‏

ومن هذا النحو قوله عزوجل‏:‏ ‏"‏ يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه

عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب ‏"‏ والفرق بين إثبات الفاء في سوف كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ‏"‏ وبين حذف الفاء ههنا في هذه الآية أن إثباتها وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل وحذفها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا‏:‏

فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت فقال‏:‏ سوف تعلمون فوصل تارة بالفاء

وتارة بالاستئناف للتفنن في البلاغة وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف وهو قسم من أقسام

علم البيان تكثر محاسنه فاعرفه إن شاء الله ‏,‏

  الضرب الثاني الاكتفاء بالسبب عن المسبب وبالمسبب عن السبب

فأما الاكتفاء بالسبب عن المسبب فكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى

الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر ‏"‏ كأنه قال‏:‏ وما كنت

شاهدا لموسى وما جرى له وعليه ولكنا أوحيناه إليك فذكر سبب الوحي الذي هو إطالة

الفترة ودل به على المسبب الذي هو الوحي على عادة اختصارات القرآن لأن تقدير الكلام‏:‏

ولكنا أنشأنا بعد عهد الوحي إلى موسى إلى عهدك قرونا كثيرة فتطاول على آخرهم - وهو

القرن الذي أنت فيهم - العمر‏:‏ أي أمد انقطاع الوحي فاندرست العلوم فوجب إرسالك إليهم

فأرسلناك وعرفناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى فالمحذوف إذا جملة مفيدة وهي جملة

وكذلك ورد قوله تعالى عقيب هذه الآية أيضا‏:‏ ‏"‏ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة

من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ‏"‏ فإن في هذا الكلام محذوفا لولاه

لما فهم لأنه قال‏:‏ ‏"‏ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك ‏"‏ وهذا لا بد له من

محذوف حتى يستقيم نظم الكلام وتقديره‏:‏ ولكن عرفناك ذلك وأوحينا إليك رحمة من ربك

لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك فذكر الرحمة التي هي سبب إرساله إلى الناس ودل بها

على المسبب الذي هو الإرسال‏.‏

وأما حذف الجملة غير المفيدة من هذا الضرب فنحو قوله تعالى حكاية عن مريم عليها السلام‏:‏

‏"‏ قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله

آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ‏"‏ فقوله ‏"‏ ولنجعله آية للناس ‏"‏ تعليل معلله محذوف‏:‏ أي

وإنما فعلنا ذلك لنجعله آية للناس فذكر السبب الذي صدر الفعل من أجله وهو جعله آية

للناس ودل به على المسبب الذي هو الفعل‏.‏

ومما ورد من ذلك في الأخبار النبوية قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه والرجل الأنصاري

الذي خاصمه في شراح الحرة التي يسقي منها النخل فلما حضرا بين يدي رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال للزبير‏:‏ ‏"‏ اسق ثم أرسل الماء إلى جارك ‏"‏ فغضب الأنصاري وقال يا رسول الله

إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ‏"‏ اسق يا زبير ثم احبس

الماء حتى يرجع إلى الجدر ‏"‏ وفي هذا الكلام محذوف تقديره أن كان ابن عمتك حكمت له أو

قضيت له أو ما جرى هذا المجرى فذكر السبب الذي هو كونه ابن عمته ودل به على

المسبب الذي هو الحكم أو القضاء لدلالة الكلام عليه‏.‏

وأما الاكتفاء بالمسبب عن السبب فكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان

الرجيم ‏"‏ أي‏:‏ إذا أردت قراءة القرآن فاكتفى بالمسبب الذي هو القراءة عن السبب الذي هو

الإرادة والدليل على ذلك أن الاستعاذة قبل القراءة والذي دلت عليه أنها بعد القراءة كقول

القائل‏:‏ إذا ضربت زيدا فاجلس فإن الجلوس إنما يكون بعد الضرب لا قبله وهذا أولى من

تأول من ذهب إلى أنه أراد فإذا تعوذت فاقرأ فإن ذلك قلباً لا ضرورة تدعو إليه وأيضا فليس

كل مستعيذ واجبة عليه القراءة‏.‏

وعلى هذا ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ‏"‏ والوضوء إنما يكون قبل

الصلاة لا عند القيام إليها لأن القيام إليها هو مباشرة لأفعالها من الركوع والسجود والقراءة

وغير ذلك وهذا إنما يكون بعد الوضوء وتأويل الآية إذا أردت القيام إلى الصلاة فاغسل

فاكتفى بالمسبب عن السبب‏.‏

وكذلك ورد قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ ‏"‏ أي‏:‏ إذا أراد

القيام إلى الصلاة وإنما عبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأن الفعل مسبب عن الإرادة وهو مع

القصد إليه موجود فكان منه بسبب وملابسة ظاهرة‏.‏

ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ‏"‏ أي‏:‏ فضرب

فانفجرت منه فاكتفى بالمسبب الذي هو الانفجار عن السبب الذي هو الضرب‏.‏